كان للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري منهج وأسلوب خاص في تصنيف صحيحه، يتوافق مع الإمام البخاري أحيانا.
ويختلف أحيانا أخرى، وقد ذكر بعض ما يتعلق بمنهجه وأسلوبه في مقدمة صحيحه.
ثم أكمل الإمام النووي توضيح ذلك في شرحه على صحيح مسلم، ولا يخفى أهمية "المسند الصحيح المختصر من السنن" والمعروف ب ـ "صحيح مسلم" ومكانته العلمية، حيث يعد أصح كتب السنة بعد صحيح البخاري، وإليك أبرز معالم منهجه في صحيحه.
منهج الإمام مسلم المتعلق بالأسانيد:
أولا: شروطه في أسانيد صحيحه:
1- شرط الصحة العام:
أن يكون الحديث متصل الإسناد، بنقل الثقة عن الثقة، من أوله إلى منتهاه، سالما من الشذوذ ومن العلة، وليس معنى ذلك أنه ضمَّن كتابه جميع ما يحفظه من الأحاديث الصحيحة، حيث قال: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"، وقال أيضا: "صنَّفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مئة ألف حديث مسموعة".
2- الرجال (الرواة):
قسَّم الرواة إلى ثلاث طبقات: الطبقة الأولى هم الحفاظ المتقنون، والثانية هم المتوسطون في الحفظ والإتقان، والثالثة هم الضعفاء المتروكون، فيروي عن أهل الطبقة الأولى في الأصول، وعن أهل الثانية في المتابعات والشواهد، وأما أهل الثالثة فلا يعرِّج عليهم.
3- اتصال السند المعنعن:
اشترط معاصرة الراوي لمن روى عنه بالعنعنة، مع إمكانية لقائهما، وانتفاء موانع اللقاء.
ثانيا: منهجه في ترتيب أحاديث صحيحه:
1- الترتيب على الأبواب:
رتّب الإمام مسلم كتابه على الأبواب، مع أنه لم يذكر عناوين (تراجم) لهذه الأبواب، لئلا يزداد بها حجم الكتاب أو لغير ذلك، وأما العناوين الموجودة في نسخ صحيح مسلم الموجودة الآن فهي من وضع الإمام النووي أثناء شرحه للصحيح.
2- ترتيب الأحاديث في الباب:
كان الإمام مسلم يتوخّى تقديم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى (الأصح)، ثم يعقِّب بما هو أقل في الدرجة والإتقان، وكان يقدِّم الإسناد الذي وقع له بعلوّ (الإسناد العالي)، حتى وإن كان فيه بعض أهل الطبقة المتوسطة، وكان يكتفي به أحيانا دون أن يذكر الإسناد النازل من رواية الثقات.
ثالثا: منهجه في المعلقات والمراسيل:
الأصل أنه لم يُخرج في صحيحه إلا ما اتصل سنده، ولكنه في المتابعات أورد بعض الأسانيد غير المتصلة (المعلقة والمرسلة) لأغراض علمية ثانوية.
1- المعلقات:
الحديث المعلق هو الذي سقط من مبتدأ سنده (من جهة المصنف) راوٍ أو أكثر على التوالي، والأحاديث المعلقة في صحيح مسلم عددها سبعة عشر حديثا، منها ستة عشر حديثا رواها موصولة أيضا، وواحد علَّقه ولم يصله في موضع آخر، ولا يعدّ ذلك قدحا في صحيحه، لكونه حديثا واحدا.
2- المراسيل:
الحديث المرسل هو ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون سقط منه صحابي أو صحابي وتابعي، أو ربما أكثر من ذلك، وبالتالي فهو من أنواع المنقطع، ولما كان اتصال السند شرط من شروط صحيحه، فإن الأحاديث المرسلة ليست على شرطه ولم يخرجها للاحتجاج بها، ولذا فهي مروية في المتابعات والشواهد، ويندر وجودها، حيث لا تتجاوز عشرة أحاديث في صحيح مسلم.
والفائدة من إيراده للمرسل:
أنه يورده محتجا بالمسند منه، لا بالمرسل، ولم يقتصر عليه، للخلاف في جواز تقطيع الحديث، على أن المرسل منه قد تبيَّن اتصاله من وجه آخر، وكذلك يريد الإشارة إلى الاختلاف الواقع في الحديث، وأنه صحيح لا يضره الخلاف.
حيث يُخرج الحديث على الوجهين: الإرسال والوصل، أو الوقف والرفع، فيُخرجه أولاً من طريق صحيح متصل، ثم يذكر المرسل في المتابعات والشواهد، وبذلك يكون المرسل مقويًّا للمتصل بعد أن ثبتت صحة الوصل والرفع.
رابعا: منهجه في الآثار الموقوفة:
الموقوفات في صحيح مسلم أقل من التي وردت في صحيح البخاري، ثم إن معظمها أوردها الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، لا في أصله، وقد أخرج جميعها تبعا لا مقصودا، وغالب ما أورده من الموقوف يتعلق بمسائل رواية الحديث، وجلُّ ما أورده خارج المقدمة يتعلق بمناسبات ورود أحاديث مرفوعة، وقد جمع الحافظ ابن حجر موقوفات مسلم في جزء صغير سماه: "الوقوف على ما في صحيح مسلم من الموقوف".
خامسا: منهجه في تكرار الحديث:
بيَّن الإمام مسلم منهجه في تكرار الحديث فقال في مقدمة صحيحه: "إِنَّا نَعْمِدُ إِلَى جُمْلَةِ مَا أُسْنِدَ مِنَ الأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فنَقْسِمُها عَلَى ثَلاثَةِ أقسَام، وَثَلاَثِ طَبَقَاتٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى غَيْرِ تَكْرَارٍ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِي مَوْضِعٌ لاَ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تَرْدَادِ حَدِيثٍ فِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى أَوْ إِسْنَادٌ يَقَعُ إِلَى جَنْبِ إِسْنَادٍ لِعِلَّةٍ تَكُونُ هُنَاكَ، لأَنَّ الْمَعْنَى الزَّائِدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ يَقُومُ مَقَامَ حَدِيثٍ تَامٍّ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ الَّذِى فِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَنْ يُفَصَّلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِصَارِهِ إِذَا أَمْكَنَ. وَلَكِنْ تَفْصِيلُهُ رُبَّمَا عَسُرَ مِنْ جُمْلَتِهِ فَإِعَادَتُهُ بِهَيْئَتِهِ إِذَا ضَاقَ ذَلِكَ أَسْلَمُ، فَأَمَّا مَا وَجَدْنَا بُدًّا مِنْ إِعَادَتِهِ بِجُمْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنَّا إِلَيْهِ فَلاَ نَتَوَلَّى فِعْلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى".
ومعنى ذلك أن التكرار عنده ظاهري لا حقيقي، لأنه لا يعيد الحديث إلا مع اختلاف في سنده أو متنه أو لفائدة جديدة، وهذه الفوائد التي يكون التكرار لأجلها ذكرنا بعضها في منهج الإمام البخاري.
سادسا: منهجه في بيان طرق الحديث واختصارها:
الأصل في إخراج الأحاديث بأسانيدها أن يُفرَد كل حديث بالرواية سنداً ومتناً، ولكن خشية التطويل دفعت الأئمة – ومنهم الإمام مسلم – إلى اتباع طرق للاختصار، منها:
1- جمع الشيوخ بالعطف:
جمع بين شيوخه بالعطف بحرف الواو، طلبا للاختصار، وعدم تكرار الجزء المشترك من الإسناد بأكمله، قال الإمام مسلم في صحيحه: "حدثنا محمد بن بكار بن الريان، وعون بن سلام، قالا: حدثنا محمد بن طلحة.. . " الحديث.
2- جمع الأسانيد بالتحويل:
جمع بين الأسانيد باستخدام حرف يدل على التحويل - أي الانتقال من سند إلى آخر- وهو حرف "ح"، وكان الإمام مسلم من أكثر الأئمة استخداما لذلك، والهدف من التحويل اختصار الأسانيد التي تلتقي عند راو معين، بعدم تكرار القدر المشترك بينها.
وتوضع حاء التحويل "ح" عند الراوي الذي تلتقي عند الأسانيد، ويكون عليه مدار مخرج الحديث، وقد توضع حاء التحويل بعد ذكر جزء من المتن، عند الموضع الذي يبدأ فيه اختلاف الروايتين.
3- ذكر بعض الطرق أو جزء من حديث والإشارة إلى الباقي للاختصار:
إذا كان للحديث أكثر من إسناد أو متن، فإنه قد يذكر بعضها ويشير إلى باقيها، دون أن يذكرها بطولها، فقد يقول: ورواه فلان عن فلان أيضا، قال الإمام مسلم في صحيحه بعد أن ذكر أحد الأحاديث: "وساقوا الحديث بمعنى حديث كَهمَس وإسناده، وفيه بعض زيادة ونقصان أحرف".
منهج الإمام مسلم المتعلق بالمتون:
أولا: منهجه في تراجم الأبواب ومسالكها:
قسَّم الإمام مسلم صحيحه إلى أربعة وخمسين كتابا، وقسّم كل كتاب منها إلى عدد من الأبواب، لكنه لم يجعل لهذه الأبواب عناوين تدل عليهما، بيد أنه رتّبها ترتيبا محكما سهّل على من جاء بعده وضع عناوين لها، وقد علّق الإمام النووي على ذلك فقال:
"وقد ترجم جماعةٌ أبوابَه بتراجم بعضُها جيِّدٌ وبعضُها ليس بجيِّد، إمَّا لقصور في عبارة الترجمة، وإمَّا لركاكةِ لفظها، وإمَّا لغير ذلك، وأنا إن شاء الله أحرصُ على التعبير عنها بعبارات تليقُ بها في مواطنها".
وقد وفَّى الإمام النووي بما وعد به، فوضع لأبواب صحيح مسلم تراجم تليق به، وكانت كلها من التراجم الظاهرة، وقد غلب على بعض التراجم الطول، بسبب محاولته جَعل العنوان شاملا لكل المعاني المندرجة في أحاديث الباب.
ثانيا: منهجه في ذكر الفوائد والتعليق على بعض الروايات:
لم يوجِّه الإمام مسلم عنايته إلى ذكر الفوائد ونحوها، بل اقتصر على ذكر الأحاديث دون التعرض لغريبها أو مختلفها، وأما الناسخ والمنسوخ فإنه كان يكتفي بتقديم المنسوخ وتأخير الناسخ، دون أن يصرِّح بالنسخ تصريحا.
ثالثا: منهجه في العناية بالألفاظ:
كان الإمام مسلم يتحرّى الدقة الشديدة في مروياته، فكان يذكرها كما رواها وسمعها، ولم يكن يقطِّع الأحاديث، ولم يكن يتصرَّف في الألفاظ، إضافة إلى ذلك فإنه كان يفتِّش عن أسماء من لم يسمُّوا في الأحاديث، ويهتمُّ بإيراد أسمائهم، ومثال ذلك ما أورده في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي امْرَأَةٌ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ». فَقُلْتُ امْرَأَةٌ لاَ تَنَامُ تُصَلِّي. قَالَ:
«عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا». وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَفِى حَدِيثِ أَبِى أُسَامَةَ: أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ بَني أَسَدٍ، ثم ذكر في رواية بعدها أنها: الْحَوْلاَءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وهذا يدل على عنايته الشديدة بمثل تلك الأمور، بينما لم يكن الإمام البخاري يولِي عناية كبيرة بمثل ذلك.
المصدر: موقع إسلام ويب